نوستالجيا المرحلة العثمانية المغيبة في زحمة الحداثة القومية
ما يميز فرقة المهتير أنها أقدم الفرق العسكرية في العالم، وترمز إلى مظاهر البطولة والسيادة التركية، منذ زمن بني عثمان، وربما قبل الخلافة الإسلامية التي حكمت المنطقة لأربعة قرون من الزمن.
دمشق ـ 'القدس العربي' ـ من أنور بدر: رغم أن فرقة المهتير العسكرية العثمانية جاءت بدعوة من السفارة التركية بدمشق ومن محافظة حمص وسط سورية للمشاركة في مهرجان 'القلعة والوادي' إلا أنها رأت أن تقيم حفلا إضافيا في حديقة تشرين وسط العاصمة السورية، تعبيرا عن الانسجام الذي يسود في الآونة الأخيرة بين البلدين، والذي يعكس في أحد وجوهه نوعا من النوستالجيا إلى رحم إقليمي شرقي كان يجمع الطرفين، باعدت بينهما السنوات، لكن المصالح الإستراتيجية للدولتين بل وللشعبين بدأت تظهر تلك الميول المكبوتة عبر عقود من الحداثة القومية.
وما يميز فرقة المهتير أنها أقدم الفرق العسكرية في العالم، وترمز إلى مظاهر البطولة والسيادة التركية، منذ زمن بني عثمان، وربما قبل الخلافة الإسلامية التي حكمت المنطقة لأربعة قرون من الزمن.
ففي العام 1289، قام الإمبراطور الأناضولي السلجوقي غياث الدين مسعود الثاني بإرسال فريق أبواق إلى عثمان غازي، وهو مؤسس الإمبراطورية العثمانية، ويعتبر هذا العام بمثابة تاريخ تأسيس أولى فرق المهتير، إلا أن تاريخ المهتير الحقيقي يعود إلى فترة أقدم بكثير، حيث تم اكتشاف وثائق عن الموسيقى التركية العسكرية تعود إلى القرن الثامن، ضمن مخطوطات أوركون غوكتورك وسيني اوسو الواقعة في منغوليا، وقد أشارت تلك المخطوطات إلى وجود الطبل والطبل الكبير والى وجود فرقة موسيقية عسكرية وبيارق خاصة بها.
كانت مهمة فرقة المهتير في الزمن القديم هي تشجيع وتقوية الدوافع الوطنية والعزيمة لدى الجنود العثمانيين في ميادين القتال، وبث الذعر في نفوس الأعداء. وكان قائد المهتير يدعى شورباجي باشي وكان يقود الانكشاريين وفرقة المهتير معا. أما اليوم فيدعى قائد فرقة المهتير: مهتير باشي. وتشكل فرقة المهتير الحالية جزءا من أركان الجيش التركي، وهي تمثل فرقة مهتير انكشاريي الإمبراطورية العثمانية، التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر.
وقد دخلت الفرقة الموسيقية من باب ساحة الأمويين في حديقة تشرين، وسارت إلى الجهة المقابلة من الحديقة حيث المسرح الحجري الذي بني على طريقة المسارح الرومانية، بإيقاع منتظم على أنغام الآلات المرافقة ضمن الفرقة، وقد لفتت أنظار الجمهور بالأزياء التقليدية التي قلما نجد فرقة عسكرية مازالت تحافظ عليها حتى الآن، لكن الجمهور الذي تابع الفرقة حتى المسرح اكتشف أنه لا توجد أمكنة فارغة لجلوسه، فقد سبقته إلى تلك المقاعد الحجرية أعداد غفيرة من محبي الموسيقى ومن
الأقلية التركية التي مازالت تستوطن مدينة دمشق أو من الأتراك نازحي قرى الجولان السوري المحتل، وكنت تستطيع تمييز هؤلاء عن باقي الجمهور من علائم الفرح التي غمرت وجوههم وهم يشاركون الفرقة الغناء وبعضهم شارك راقصا.
وتتألف الفرقة من ست مجموعات وفقا للآلات الموسيقية المستخدمة: وهي الشوم، الأبواق، الطبلة، الصنجات، الطبل المتوسط، والطبلة الكبيرة، إضافة إلى عدد من مغني الكورس ويطلق عليهم اسم شيفغين.
وترمز البيارق الثلاثة المرفوعة، إلى شرف الجيش التركي، حيث يمثل البيرق الأحمر الدولة، ويمثل البيرق الأخضر الإسلام بينما يمثل البيرق الأبيض الاستقلال.
أما الصولجان فهو مصنوع من النحاس ويبلغ ارتفاعه حوالي مترين ونصف المتر، ويوجد على طرفي كل من جزئيه العلويين طرة مصنوعة من وبر ذيل الحصان، ويستعمل الصولجان ليدل على المهام والرتب العسكرية مثل السلطان أو الوزراء.
وقد بدأ الحفل باستعراض لأغاني الفرقة التي كان واضحا طابعها الوطني والحماسي أيضا، وقد استمرت هذه الفقرة لعشرين دقيقة كاملة ثم تابعنا عرض فيلم وثائقي عن فرقة المهتير الموسيقية، تأسيسها، آلاتها الموسيقية، أغانيها، مشاركاتها ضمن الحروب وفي المراسم الرسمية، تطور هذه الفرقة في زمن الجمهورية لاحقا والتي حافظت من بين أشياء قليلة على ذلك الطابع العثماني للفرقة باعتباره رمزا لقوة المؤسسة العسكرية وذكرى انتصاراتها، وما رافق ذلك من عزة قومية. وإن كنا نتمنى مع الكثير ممن حضروا هذا الحفل أن يكون الفيلم الوثائقي مترجما ترجمة كتابية على الشاشة أو ترجمة صوتية مرافقة. ثم تابعت الفرقة تقديم الجزء الثالث والأخير من الحفل، الذي تضمن الكثير من الموسيقى والأغاني التركية التي بدا بعضها قريبا إلى ذائقتنا السمعية، خاصة أن العديد من هذه الألحان أو الجمل الموسيقية الأساسية فيها تمت استعارتها وتركيب كلمات عربية على ذات الألحان، بتوزيع موسيقي مختلف أو بدون هذا الغناء أيضا.
وإذا كان ما يحدد حجم وعظمة المهتير هو عدد كل من أنواع الالات الموسيقية، إذ تضم الفرقة الواحدة من المهتير عازفا واحدا على كل نوع من الالات الموسيقية الست، وهي الشوم، الأبواق، الطبلة، الصنجات، الطبل المتوسط ، والطبلة الكبيرة بالاضافة الى مغنيين من الكورس. فإننا نستطيع تقدير أهمية الفرقة التي شاهدناها والتي ضمت عشرة عازفين من كل آلة موسيقية، وبالتالي كنا أمام استعراض فني كبير له أكثر من رسالة فيما أعتقد. لكنه كان أولا وأخيرا استعراضا فنيا ناجحا بكل المستويات.
الخميس سبتمبر 16, 2010 11:08 pm
