السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين
من كتابات الاستاذ/رفيق شاكر النتشه
السلطان الذي خسر عرشه من أجل فلسطين
(( لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لانها ليست لي بل لأمتي، لقد حصلت أمتي على هذه الامبراطورية بإراقة دمائها وسوف تحميها بدمائها قبل أن تسمح لأحد باغتصابها منا ، ليحتفظ اليهود بملايينهم ، فاذا قسمت الامبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل ، انما لن تقسم إلا على جثثنا))
السلطان عبد الحميد الثاني
الفصل الأول
اليهود في ظل الحكم الإسلامي
1 - الإسلام واليهود .
2 - اليهود والنصارى في القرآن والسنة .
3 - اليهود في العالم الإسلامي .
4- اليهود في الدولة العثمانية .
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
من الحقائق المسلم بها ان القضية الفلسطينية هي القضية المحورية والاساسية للعالمين العربي والاسلامي، ومنذ وقوع البلاد العربية تحت الحكم العثماني ، ظلت اربعمائة سنة بعيدة عن السيطرة الاستعمارية الاوروبية، ولم يستطع الاستعمار الغربي الوصول الى فلسطين الا بعد سقوط الدولة العثمانية ، وعند ذلك فقط أمكن وضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ .
ونحن لا ننكر ان البلاد العربية قد وصلت في اخر عهد الدولة العثمانية الى درجة كبيرة من الانحطاط والتخلف الاجتماعي ، والثقافي ، والحضاري . وهذا الانحطاط كان ينطبق على جميع أقاليم الدولة العثمانية ، بما فيها تركيا ذاتها .
وكان لمجيء السلطان عبد الحميد الثاني أثر واضح في المحاولات الكثيرة ولجهود الكبيرة التي بذلها لرفع شأن الدولة العثمانية وإجراء الاصلاح في كل ركن من اركانها ولكن يبدو انه جاء متأخراً ، اذ كان الفساد قد استشرى في كل مكان من الدولة ، واصبح الاصلاح مستعصياً ، خاصة وان الدولة الاستعمارية كانت قد قطعت شوطاً كبيراً من التقدم والرقي ، واخذت بكل اسباب القوة .
لقد كانت الدولة الاستعمارية جميعها تتطلع الى الدولة العثمانية المحتضرة ( الرجل المريض ) للانقضاض عليها وتفتيتها واقتسام ممتلكاتها فيما بينها ، مستعملة في ذلك كل الوسائل المتاحة لها لتحطيم الدولة العثمانية والسيطرة على البلاد العربية ولوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ في فلسطين، الارض المستهدفة من قبل جميع الدولة الاستعمارية .
ونحن في هذا الكتاب أردنا ان نبين مواقف السلطان عبد الحميد الثاني من القضية الفلسطينية والتي كانت في زمنه تتركز على قضية الهجرة اليهودية الى فلسطين وشراء الاراضي ومشاركة كل الدول الاستعمارية في العمل على تشجيعها مستخدمة في ذلك الاغراء المادي تارة ، والضغط على السلطان تارة اخرى أو استخدام ذوي النفوس الوضيعة بالرشوة من اجل تشجيع الهجرة وشراء الاراضي.
ولكن تصدى السلطان عبد الحميد الثاني للدول الاستعمارية وللصهيونية في منعها من تهجير اليهود الى فلسطين ، ومنعها من شراء الاراضي فيها ، قد وضعه في مصاف الد اعدائها ، واصبح حجر عثرة في سبيل تحقيق المشروع الصهيوني .
وقد تجلت مقاومة السلطان عبد الحميد لمشاريع الاستعمار والصهيونية في الرد على المحاولات المتعددة والمجهودات الكبيرة التي قام بها عميل الاستعمار الغربي هرتزل .
فقد سافر هرتزل الى الاستانة في 18 حزيران (يونيه) 1896 م لاقناع السلطان بالهجرة اليهودية وشراء الاراضي مقابل المساعدات ، والهبات المالية للدولة العثمانية ، ولكن السلطان بلغ وسطاء هرتزل رفضه لهذه المحاولات بقوله وكما أورده هرتزل في مذكراته.
(( لا أقدر ان ابيع ولو قدماً واحداً من البلاد ، لانها ليست لي ، بل لأمتي ، لقد حصلت أمتي على هذه الامبراطورية باراقة دمائها ، وسوف تحميها بدمائها ، قبل ان تسمح لاحد باغتصابها منا ، ليحتفظ اليهود بملايينهم ، فاذا قسمت الامبراطورية ، فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل ، انما لن تقسم الا على جثثنا ، ولن اقبل بتشريحنا لأي غرض كان )) .
وقد حاول هرتزل بعد شهرين معاودة الاتصال بالسلطان وعرض عليه عروضاً مالية مضاعفة ولكن السلطان واجها بالرفض .
بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الاول عام 1897 م وفي 4 شباط (فبراير) عام 1898 م حاول هرتزل عن طريق وسطاء ، الحصول على ما يريد ، ولكن جواب السلطان هذه المرة كان في حزيران (يونيه) من العام نفسه ان اصدر قوانين جديدة ضد الهجرة ، وبلغ من تشدد السلطات العثمانية في تنفيذ هذه القوانين انها منعت نائب القنصل البريطاني في انطاكية من الدخول الى فلسطين ما لم يقدم التعهد المطلوب لكونه يهودياً . (ذلك التعهد الذي يقضي بخروجه من البلاد ) .
وفي 13 آب (اغسطس) 1899 م أرسل هرتزل الى السلطان عبد الحميد بمناسبة انعقاد المؤتمر الصهيوني رسالة يطلب فيها السماح لليهود بالهجرة الى فلسطين ، ولكن السلطان رفض الرد على الرسالة .
وفي 13 آيار (مايو) 1900 توجه الى استانبول في زيارة ثالثة للاجتماع بالسلطان العثماني بصفته صحافي صهيوني ، وقد تم له ذلك عن طريق جاسوس عثماني مستشرق هنغاري اسمه فامبري الذي حذر هرتزل قبل الاجتماع بالسلطان من الانجراف في آراء مضادة لما يفكر فيه السلطان ، وقال له "اياك ان تحدثه عن الصهيونية ، القدس مقدسة لهؤلاء الناس مثل مكة " .
وفي 18 آيار (مايو) 1901 م قال هرتزل للسلطان وكان قد اصطحب معه حاخام تركي ( موسي ليفي ) وعرض على السلطان تصفية الديون العثمانية ، واصلاح الاقتصاد المتدهور ، ووقف حملات صحف (تركيا الفتاة) في أوروبا ، وذلك مقابل (ايجاد ملجأ) لليهود في الاراضي المقدسة "فلسطين".
فغضب السلطان لما سمع وتوجه بالكلام الى الحاخام ليفي قائلاً : ( اننا نظن بان قومكم يعيشون بعدالة ورفاه وأمن ، وانكم تعاملون نفس المعاملة الحسنة التي يعامل بها كافة تبعتنا ، دون تفريق أو تمييز ، فهل لكم شكاية ؟ او هنالك معاملة غير عادلة ولا نعرفها نحن ؟ ) فأجاب الحاخام موسى ليفي : (استغفر الله سيدي بفضل ظل شاهانتكم ، نعيش بكمال ورفاه ، حاشا لا توجد لنا شكاية ما ) .
فأجاب السلطان : (( انكم تسفيدون من خيرات بلادنا كمواطينينا الآخرين ، بل انتم تنعمون أكثر من سواكم ، أفأظنكم نسيتم الاضطرابات والعذاب الذي كنتم ترونه في انحاء الدنيا وانتم في احضان أمتي)). ثم وقف السلطان وادار نظره الى هرتزل وقال: ((اننا لن نفرط بشبر من بلادنا دون ان نبذل أكثر مما بذلناه من دماء في سبيلها)) واضاف السلطان :
((اني أحب تطبيق العدالة والمساواة على جميع المواطنين ، ولكن اقامة دولة يهودية في فلسطين التي فتحناه بدماء اجدادنا "المسلمين" العظام فلا )) .
وفي 12 شباط (فبراير) 1902 م سافر هرتزل مرة اخرى الى استانبول في زيارة رابعة ، ولكن لم يستطع مقابلة السلطان .
ونتيجة للفشل الذريع لمهمة نبي الصهيونية ورسول الاستعمار الغربي مع السلطان عبد الحميد الثاني قررت القوى الاستعمارية والصهيونية التخلص من شخص السلطان وذلك بترتيب اغتياله .
وتذكر المصادر الصهيونية انه بسبب موقف السلطان المتصلب من المشروع الصهيوني عرض هرتزل على القوى الاستعمارية في 24 شباط (فبراير) 1904 م اقتراحاً يقضي بان يبحر هرتزل الى البوسفور في سفينتين وينسف قصر يلدز ، ولكن اقتراحه فشل ، لما سيترتب على هذه العملية من نتائج وخيمة على اليهود .
وهكذا اصبح السلطان عبد الحميد هدفاً للمؤامرات الاستعمارية والصهيونية بسبب موقفه من القضية الفلسطينية من بدايتها ، وظلت تلك القوى تتآمر عليه وعلى الدولة العثمانية حتى تم لها ما أرادت ، وسقط السلطان وخسر عرشه وخلف من بعده خلف اضاعوا البلاد ، وفرطوا في فلسطين ، وبدأت القوى الاستعمارية والصهيونية تعمل بحرية لاقامة المشروع الصهيوني بعد ان اصبحت فلسطين في ظل الاحتلال البريطاني .
لقد حرصت في هذا الكتاب ان انصف هذا الرجل الذي شوهته الاقلام التي وضعت نفسها في خدمة الصهيونية والاستعمار سواء كان ذلك عن عمد أو عن جهل .
وا يهمني في هذا الموضوع ليس تقييم موقف السلطان من الاصلاحات الداخلية في الدولة العثمانية ، فهذا متروك لأصحاب الاختصاص ، والمهتمين بذلك ، ولكن الذي أود توضيحه هو هذا الجانب المضيء للسلطان عبد الحميد في موقفه من الاستعمار والصهيونية ومحاولاته الصادقة في الحفاظ على فلسطين .
كما وان موقف السلطان هذا قد جعله من الابطال الذين لن ينساهم شعبنا بالرغم من كل الدعايات المغرضة التي أثارتها الدول الاستعمارية والصهيونية ضده.
ولقد حرصت في هذا الكتاب على اعطاء صورة عن حالة اليهود في ظل الحكم الاسلامي ، مما يؤكد عدم وجود أي مبرر للتحدث عن المشكلة اليهودية في بلادنا كما يبنت في فصل آخر حالة الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر والتي كانت تسير نحو التفسخ والانحلال ، مما شجع الدول الاستعمارية على التآمر عليها والعمل على تفجيرها من الداخل ، باستغلال الدعوات القومية ، وهذا ما وضحته في الفصلين اللاحقين .
واخيراً بينت كيف تصدى السلطان عبد الحميد للاستعمار والصهيونية ، وكيف دفع عرشه ثمناً لموقفه المشرف ، وهذا ما جعله يستحق منا ان نكتب عنه هذا الكتاب .
والله ولي التوفيق. ،،،
قال الله تعالى :
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين}
"صدق الله العظيم"
......يتبع ........