ناغورني قره باخ : نيران تحت رماد التاريخترتفع ثلاث رايات أذرية وثلاث أخرى تركية أمام المدخل الرئيسي لـ«ضريح الشهداء» (شهيدلِر خياباني)، حيث يمكن للزائر التقاط صورة بانورامية لمدينة باكو.ترتفع ثلاث رايات أذرية وثلاث أخرى تركية أمام المدخل الرئيسي لـ«ضريح الشهداء» (شهيدلِر خياباني)، حيث يمكن للزائر التقاط صورة بانورامية لمدينة باكو. في هذا المكان لا يمكنك أن تحصي عدد النعوش التي تعلوها صور القتلى الذين سقطوا في ثلاث محطات مفصلية في تاريخ أذربيجان الحديث: معركة الاستقلال في العام 1918، المواجهات مع الشرطة السوفياتية في كانون الثاني العام 1991، والحرب في إقليم ناغورني قره باخ بين العامين 1992 و1994.
لكل شهيد في هذا المكان، الذي كان يعرف في السابق باسم «حديقة كيروف»، حكاية تروي مأساة: طفل قتل على أيدي المسلحين الأرمن عندما كان يفر مع أهله من قره باخ. فتاة قضت خلال محاولتها الهرب من الاضطرابات التي رافقت معركة الاستقلال في بداية التسعينيات. شابة انتحرت بعد ساعات على مقتل عريسها... وجنود أتراك سقطوا في معركة الدفاع عن مدينة باكو في نهاية الحرب العالمية الأولى.
القسم الأكبر من الراقدين في هذا المكان هم من قتلى الحرب الأذرية ـ الأرمنية التي دارت رحاها حول إقليم
ناغورني قره باخ، وراح ضحيتها أكثر من 30 ألف قتيل بين الجانبين، قبل أن تنتــهي بهدنة هشة كرّســت هزيمة قاسية لأذربيجان، التي خسرت 20 في المئة من أراضيها، وبات نحو مليون من أهلها لاجئين على بعد كيلومترات من قراهم.
تعددت التوصيفات لطبيعة الصراع على
ناغورني قره باخ، حيث اعتبره البعض نزاعاً عرقياً، فيما رآه آخرون صراعاً دينياً بين المسيحية الأرمنية والإسلام التركي. لكن الثابت هو أنّه يمثل تنازعاً بين مبدأين أساسيين في القانون الدولي، هما «السيادة الإقليمية» و«حق تقرير المصير»، ويغذيه خلاف حول الهوية التاريخية للإقليم، إذ يؤكد الأرمن أنه كان جزءاً من مملكتهم القديمة، فيما يشدد الأذريون على أنه انتُزع من أجدادهم الألبان القوقازيين.
عوائق التسوية وآفاقها
وبالرغم من مرور 16 عاماً على إعلان الهدنة بين الطرفين، فإن منطقة
ناغورني قره باخ (أو «آرتساخ» بحسب التسمية الأرمنية) تبدو أشبه ببركان قابل للانفجار في أي لحظة، خاصة بعدما فشلت الوساطة الدولية، التي تقودها «مجموعة مينسك» المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في التوصل إلى تسوية دائمة لهذا الصراع الشائك.
«لقد بلغنا مرحلة حاسمة في حل النزاع. المفاوضات ستستكمل. والعديد من الاقتراحات المطروحة تلبي مصالح أذربيجان». بهذه العبارات وصف الرئيس الأذري إلهام علييف، قبل أشهر، الجولة الأخيرة من المفاوضات مع أرمينيا حول
ناغورني قره باخ، والتي تُوّجت بعقد لقاء «بناء» جمع الرئيس الأذري بنظيره الأرمني سيرج ساركيسيان في موسكو.
لكنّ التوصيف الإيجابي الذي أطلقه علييف يكاد لا يعكس في الواقع حقيقة المواقف المتباعدة بين طرفي النزاع،
فلباكو شرط وحيد «غير قابل للتنازل» وهو استعادة ناغورني قره باخ وباقي الأراضي التي تحتلها أرمينيا. أما يريفان فتصر على منح سكان الإقليم «الحق في تقرير مصيرهم» - سواء في انضمامهم لأرمينيا أو إقامة دولتهم المستقلة - فضلاً عن مطالبتها بـ«ضمانات أمنية» متعددة، من بينها السيطرة على عدد من الممرات الآمنة (أهمها ممر لاتشين الاستراتيجي)، وذلك لضمان التواصل الجغرافي بين أرمن قره باخ و«الوطن الأم».
غير أنّ معوقات التسوية لا تقتصر على هذه المطالب، فعملية التفاوض بحد ذاتها تنطوي على إشكاليات عديدة، لعل أبرزها رفض باكو إشراك حكومة قره باخ في المحادثات، إضافة إلى الشكوك التي يبديها الطرفان في «نزاهة» الوسطاء الدوليين، حتى بات الجمود سيد الموقف.
ويعزو نائب وزير الخارجية الأذري حافظ باشاييف هذا الجمود إلى «المواقف الأرمنية غير البناءة» في ما يتعلق بقضايا الوضع النهائي للإقليم. ويقول باشاييف لـ«السفير»: «موقفنا واضح جداً. لن نتنازل عن سيادتنا، ونحن لم نقفل الباب أمام سكان قره باخ لتقرير مصيرهم، فقد قدمنا العديد من بادرات حسن النية لإنجاح المفاوضات، بما في ذلك الموافقة على حكم ذاتي عالي المستوى في الإقليم. وعلى أرمينيا ألا تنتظر منا أكثر من ذلك».
أما أيغون حسينلي، من «الأكاديمية الدبلوماسية» في باكو، فترى أنّ سبب هذا الجمود يعود بشكل أساسي إلى أنّ «أرمينيا لا تبدي أي استعداد للانسحاب من الأراضي الأذرية المحتلة»، مشيرة إلى أنه «حتى في حال وافقت يريفان على هذا المطلب الأذري، فإنّ أرمن الشتات سيستخدمون نفوذهم المادي والسياسي لمنع خطوة كهذه».
وتعتبر حسينلي أنّ على
أذربيجان أن «تعزز قوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية بهدف كسر هذا الجمود». وتوضح: «صحيح أن أذربيجان اختارت المسيرة السياسية لتسوية النزاع، لكن عليها في المقابل أن تعزز قدراتها لتعزيز هذا المسار».
ويعكس رأي حسينلي الخطوط العريضة للسياسة التي تعتمدها باكو في مقاربتها لهذا الصراع، عبر المزاوجة بين سياسة ضبط النفس ومسار المفاوضات من جهة، وبين الاستفادة من عائدات النفط لتعزيز قوتها العسكرية من جهة ثانية، حيث تشير بعض التقارير إلى أنّ أذربيجان رفعت حجم الإنفاق العسكري في موازنتها من 135 مليون دولار في العام 2003 إلى 1.85 مليار دولار في العام 2008 (في مقابل 410 ملايين دولار لأرمينيا).
الدور الخارجي
يسعى باشاييف إلى تقديم إجابة دبلوماسية على سؤال حول الدور الذي يمكن للأطراف الدولية القيام به في الأزمة، قائلاً إنّ حكومته «تعوّل على المجتمع الدولي لإرغام أرمينيا على الانسحاب من الأراضي المحتلة»، متفادياً بذلك الحديث عن الجهة التي تمتلك مفتاح الحل، باستثناء قوله إنّه «يمكن لروسيا القيام بمزيد من الجهود».
أما حسينلي فترى أنّ «للقوى الكبرى تأثيراً كبيراً في المنطقة ما يجعل دورها أساسياً في إيجاد حل للنزاع». وبحسب أيغون فإنّ «الأذريين مستاوون من الطريقة التي تتعامل فيه تلك القوى مع قضيتهم: الولايات المتحدة التي قطعت المساعدات عن أذربيجان. روسيا التي تقدم شتى أنواع المساعدات لأرمينيا. وإيران التي تتراوح سياستها بين توفير الدعم لأرمينيا ومؤازرة الحركات الانفصالية في جنوب أذربيجان».
في المقابل، تشيد حسينلي بتركيا لكونها «الدولة الوحيدة التي تدعم أذربيجان مادياً ومعنوياً»، لكنها ترى أنّ أنقرة، ورغــم قوتها، لا تمتلك تأثيراً سياسياً كبيراً في جنوب القوقاز.
ورغم أجواء التفاؤل التي أشاعها التقارب الأخير بين تركيا وأرمينيا، فإنّ حسينلي تستبعد أي تأثير إيجابي لهذا الأمر على ملف
ناغورني قره باخ، وذلك لأسباب عديدة أهمها أن «أنقرة ليست لاعباً أساسياً في الصراع»، إضافة إلى «رفض أرمينيا الربط بين حل مشكلة قره باخ والتقارب مع تركيا»، فضلاً عن أن «مواقف القوى الكبرى من النزاع ما زالت على حالها». علاوة على ذلك، تبدي حسينلي خشية من أن يؤدي التقارب الأرمني - التركي إلى تعزيز قوة يريفان، خاصة في المجال الاقتصادي، موضحة أنّ أي اتفاق ستبرمه تلك الدولة مع تركيا سيؤدي إلى فك عزلتها الدولية، ما سيوفر لها هامشاً كبيراً لإظهار مزيد من التعنت.
لا يبدي المسؤولون في باكو تفاؤلاً بقرب التوصل إلى حل لمشكلة
ناغورني قره باخ، لكنهم «يأملون» في تسوية قريبة.
أما في الشارع فإنّ مشاعر العداء والكراهية تكشف عمق الصراع الذي تمتد جذوره إلى مئات السنين. كثيرة هي الجولات التفاوضية التي جلس فيها الطرفان على طاولة واحدة، لكنها، رغم ذلك، تبدو غير كافية لطي صفحة نزاع سيبقى لهيبه مشتعلاً تحت رماد التاريخ.
[color=olive]السفيرcolor]]