تركيا اليوم هي الاستثناء في العالم الإسلامي.. إنها الولادة الشرعية للمبادئ الكمالية الستة، وهي وريثة الإرث العثماني الإمبراطوري.. إنها الحالة الوسيطة
في توازن الدين والدنيا، وأنها ماسكة العصا من الوسط بين ماضيها ومعاصرتها
من لم يقرأ التاريخ العثماني على مهل شديد ، ويفكر في بنيوياته وتشكيلاته ، سينبهر حتما جراء هذا الاستثناء الذي يمتد طويلا في العمق ، فالدولة العثمانية هي صبغة عجيبة من تراث الإسلام الخصب ، ومن تقاليد أوروبا الإمبراطورية ! وعليه ، فإننا لا نجد أي أزمة للهوية في تركيا المعاصرة ، كونها بلاد علمانية بأثواب إسلامية ..
وكثيرا ما يندهش كثير من المسلمين من تجربة أتاتورك ، ويلومونها كونها تجربة علمانية ، ولم يعرفوا أن ذاك الزعيم نفسه قد أبقى على المدارس الدينية العثمانية في عموم تركيا .. في حين أن دولا عربية شرّعت في دساتيرها أن دين الدولة هو الإسلام ، ولكن ممارساتها علمانية مستترة ! إن تركيا ، دولة واضحة أمام مجتمعها ، منذ إعلان جمهوريتها حتى اليوم ، في حين أن دولا عربية تعيش أزمات ثقة وهوية بينها وبين مجتمعها ، أي باختصار تعيش أزمة أخلاقية على امتداد القرن العشرين وحتى اليوم . وانتقل اهتزاز تلك " الثقة " كي يؤسس عليها جملة كبيرة من التحالفات الداخلية ، أو الإقليمية ، أو الدولية !
هكذا ، أصبح لتركيا خصوصياتها ، واختطت نهجا لها في بناء العلاقات ، أو أن تكون وسيطا في محادثات السلام بين العرب وإسرائيل ، إذ شعر اردوغان وريث اربكان أن له القدرة أن يأخذ دور مصر وسيطا مركزيا في المنطقة .. بل ومنحت خطاباته ضد سلوكيات إسرائيل المتوحشة ضد غزة المجال لأن يسبق بدوره جامعة الدول العربية بقضها وقضيضها ممثلة بأمينها العام الذي شعر بضآلته العربية أمام خروج اردوغان بقامته التركية وخصوصيته الإسلامية .. إن من يقرأ ما نشرته عن العثمانيين منذ عشرين سنة ، سيجدني قلت بخصوصية انفتاح " الإسلام العثماني " على الغرب إزاء انغلاق العالم الإسلامي على نفسه ، واجترار الأخير تقاليده السياسية ، وأفكاره التي كانت ولم تزل تدور على نفسها وقد سحقتها رحى التاريخ !
إن لعب تركيا لدورها في العالم كضامن للسلام والأمن في المنطقة ، ليس محاولة لاستعادة مكانتها العثمانية القديمة ، بقدر ما هو تعبير عن نجاح قدرتها ، وإخصاب خصوصيتها ، ومعادلة توازنها بين الشرق والغرب ، أو بين التراث والمعاصرة ، أو بين العلمانية والإسلام .. وهي تمتلك اليوم دروسا عميقة ، أتمنى على تجارب دول وأحزاب أن تحذو حذوها ، بعيدا عن الاتهامات الرخيصة ، وتسويق أدوات التكفير الجاهزة .. وهنا لا اقصد العرب وحدهم ، بل الباكستان وإيران كقوتين إسلاميتين ، لهما نهجهما المتباين في تسويق بضاعتهما في الإسلام السياسي ، ولكن من منطلقات قومية تارة ، وطائفية تارة أخرى !
إن دور تركيا اليوم ليس هامشيا أو تابعا .. صحيح أنها عضوا في حلف الأطلسي، ولكن لها القدرة على صناعة إرادتها بنفسها بسبب مكانتها القوية في المنطقة ، وإستراتيجية جغرافيتها ، فضلا عن امتلاكها جيشا كبيرا .. وبالرغم من هواجسها الشديدة بصدد التطلعات النووية الإيرانية ، لكنها وإيران ترتبطان بعلاقات قوية اقتصاديا وسياسيا .. كما أن لتركيا القدرة على بناء جسور قوية مع مصر والباكستان والسعودية وبعض دول الخليج .
أما علاقاتها بكل من العراق وسوريا ، فثمة مشكلات بين هذه الدول المتشاطئة على مياه دجلة والفرات أولا ، وأيضا حول التطلعات الكردية وانطلاق العنف ثانيا .. ولإيران شراكة إقليمية كرابع دولة تقف ضد تأسيس وطن قومي للأكراد الذين وقعوا منغلقين بين ثلاث قوى إقليمية كبيرة : تركيا وإيران والعرب !
يسعى المسؤولون الأتراك اليوم لحل كل مشكلات الماضي مع الأرمن من اجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويعتقد الأتراك أن انضمامهم للأوربيين سيساعد العالم الإسلامي في الخلاص من بعض مشكلاته وتوتراته . ومن اجل تأسيس للتوازن التركي بين أوروبا وآسيا ، فان ثمة مساعي لتجديد الأسس الكمالية القائمة على " الأمن في الداخل .. الأمن في الخارج " والانتقال من إيديولوجية " التغريب " التي سادت في القرن العشرين إلى تشكيل لـ " التوازن " ، بحيث يعاد النظر اليوم على أيدي المسؤولين الأتراك الجدد إلى توظيف تركيا كي تكون جسرا بين قارتين .. أي استعادة ارث عثماني كان قد جمده أتاتورك وخلفائه إبان القرن العشرين ، وهذا ما ألمحت إليه في كتابي ( العرب والأتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة ، بيروت 1997 ) ، وسيعمل على مقاربة جيو تاريخية حقيقية بين عالمين اثنين ، واعتقد أن تركيا ستنجح في مراميها الجديدة ، ما دامت تنتهج سياسات مرنة باتجاه الطرفين من دون أية تعصبات ، أو انتهاج أية سياسات متطرفة . وعلى المستوى الداخلي ، اثبت الأتراك أن الإسلام المتجدد له القدرة على التعايش مع الديمقراطية والحداثة بلا أية خيانة لا للإرث الديني من طرف ، ولا للمبادئ الكمالية من طرف آخر .. إن تركيا تسعى اليوم لتشكيل خصوصية معاصرة لم يسبقها الآخرون إليها من قبل في الشرق الأوسط .
إنها تستثمر كماليتها وعثمانيتها في تأسيس ما يسمى بـ " تحالف المحيط " ليس هروبا من التاريخ ، بل محاولة منها لقيادة الدخول إليه من جديد .. فهل ستنجح في إستراتيجيتها هذه المرة .
هذا ما سيعلمه أبناء الجيل القادم بعد رحيلنا ، اثر تسنمّه مقاليد حياة الشرق الأوسط .
أ.د. سيّار الجميل / الجيران