الملكة تومايريس
المرآة التركمانية أو التركية لا فرق لها أهميتها ضمن أسرتها ومجتمعها منذ القديم, ولها دور كبير في المجال السياسي و الاقتصادي والاجتماعي, فلم ينكرها التاريخ لأدوارها عبر الزمن بل دون ما تميزت به في صفحاته منذ كتب التاريخ وظهر وجوده كمدونات في أخبار ماضي الشعوب والأمم.
لقد ورد في طيات صفحاته العديد من النساء قبل وبعد الفتوحات الإسلامية وحتى قبل الميلاد لادوار هامة قمن بها في مجال الحكم والسياسة والقيادة وصعدن إلى مراكز متقدمة في أماكن تواجدهن وحققن بعد وصولهن إلى هذه المراكز التقدم والازدهار لشعوبهن وحفظن أوطانهن من الطامعين والأشرار.
لقد أورد هيروديت إحداهن من الكثيرات في التاريخ, و الذي يعتبر من أوائل المؤرخين اليونان والذي يسمى أبو التاريخ في طيات كتابه (تاريخ هيروديت) عن سيدة تركمانية تسمى الملكة تومايريس وليت حكم الماساجيتاي في تركستان ( آسيا الوسطى) بعد وفاة زوجها, والماساجيتاي من القبائل التركية القديمة ما قبل الميلاد بكثير , كانت مملكتهم تحادد مملكة الميديين الفرس يفصل بينهما نهر جيحون والذي كان يسمى حينها بنهر أراكسس وكان ملك الميديين في حينها قورش العظيم ابن قنبيز صاحب الانتصارات الكبيرة في الحروب التي خاضها مع شعوب عديدة فأراد هذا الملك أن يضم مملكة الماساجيتاي إلى مملكته بعد وفاة زوج تومايريس فبعث إليها خاطبا ودها, راغبا في الزواج منها, وبهذا الزواج يضم مملكتها إلى مملكته, ولكن تومايريس أعرضت عن ذلك وردت طلبه إدراكا منها للحفاظ على وطنها, وان هذا العرض ما هو إلا حيازة وطنها ومملكتها وضمه إلى مملكته, فلما خاب قورش أمله أن ينال بغيته بالمكر والحيلة, أراد أن يبلغ مطمحه بقوة السلاح, فحشد قواته واعد القوارب وبناء الجسور على نهر جيحون لعبوره إلى الطرف الآخر, وفيما العمل جار على قدم وساق لإعداد الحملة علمت الملكة تومايريس بما يجري على حدودها فأرسلت إليه كتابا يحمل هذه السطور:
إلى ملك الميديين, لقد بلغنا ما أنت عازم عليه, وأنا لمن الناصحين أن تقلع عن هذا الأمر, فأنت إن بدأت أمرا قد يفوتك أي منتهى ينتهي إليه, ودونك اهلك واحتمل مما أن نحكم شعبنا ولكنك لست طبعا بالذي يأخذ بالمشورة, فقد علمنا من أمرك انك لا تستريح للعيش في سلام. فان كان هذا شانك فأصغي إلي هذا القول: إن كنت عازما على أن تمتحن قوتك أمام الماساجيتاي فحسبك إذ, أن تقلع عن هذا العمل الشاق في بناء الجسور ولينسحب جيشك مسافة ثلاثة أيام من الجسر, وأسعى إلى لقائي بعدئذ في تلك الأرض. أو لك إن شئت أن تسحب قواتك مثل هذه المسافة, وسأسعى عندئذ إلى لقائك في تلك الساحة.
فلما بلغت رسالة الملكة قورش دعا كبار أعوانه, عرض عليهم الأمر وسألهم الرأي فيما ينبغي عمله, فذهب كل منهم إلى تأييد فكرة ترك تومايريس تتقدم وجيشها إلى طرفهم من النهر وكان تأييد هذا الخيار بالإجماع ولم يخالفه سوى معارض واحد هو كرويسوس الليدي الذي حضر هذا الاجتماع والقادة الفرس. فقال مخاطبا قورش في شرح أسباب معارضته : (يا مولاي إنها مشيئة الله أن أقوم على خدمتكم, ولسوف تجدونني ابذل ما استطعت في طاعتكم لأجنبكم كل مكروه وخطر يتهدد بيتكم وقد علمتني المحن الكثير. وإذا كنتم تعتقدون وجندكم بأنكم من الخالدين فليس يجدي. إذن, أعرض لكم رأيا. أما إن كنتم تدركون إنكم وجنودكم من البشر فانون, فان أول قولي هو أن حياة الإنسان مثل العجلة الدائرة لا تدع قوما يهنئون أبدا في عيشهم. وما اذهب إليه فيما انتم تتداولون هو النقيض لما يذهب إليه الآخرين. وعندي ألا تدعوا العدو ينتقل إلى هذا الجانب من النهر. فان دحرتم لم تخسروا المعركة فحسب وإنما ذهبت معها إمبراطوريتكم كلها, وذلك أن الماساجيتاي إن انتصروا لن يتوقفوا عائدين أدراجهم إلى بلدهم, ووفاضهم خاو, وإنما سيتابعون طريقهم ولا ريب ليدخلوا مملكتكم. أما إذا كان القتال موافقا لكم فلن يكون النصر حاسما كما لو كنتم تقاتلون على أرضهم. ثم تابعتم مطاردة العدو المهزوم. وما اذهب إليه إنما يعتمد على تقدير ما اعتقد جازما انك فاعل, إن حالفك النصر, أن تتابع زحفك على مملكة تومايريس. وان فوق هذا لمن العار أن يخلي قورش ابن قنبيز الساحة أمام امرأة. وإذن فدونكم ما أشير إليه: اعبروا النهر وامضوا حتى آخر موقع ينسحب إليه العدو, ولتحاولوا بعدئذ سحقه بخطة محكمة. فلقد بلغني أن هؤلاء قوم لم يخبروا متع الحياة. ولتكن هذه الحقيقة خادمكم, فأقيموا وليمة كبيرة في معسكركم واذبحوا عددا من الخراف وزينوا المائدة بالأصناف اللذيذة من الطعام, وأكثروا من دنان النبيذ. وإذا تم ذلك ترجعوا إلى النهر, ودعوا خلفكم فوجا صغيرا من الرجال, وان لم يخالفني الصواب فإنكم واجدون أعدائنا يقبلون على تلك الأطايب وعندئذ تكون اللحظة المنتظرة لنبلي فيها البلاء الحسن.
فلما سمع قورش هذين الرأيين على تباعدهما وجد نفسه يميل إلى رأي كرويسوس فأرسل بكتاب إلى تومايريس يطلب منها الانسحاب. فعزم على عبور النهر فاستجابت لطلبه. إذ أنها هي التي عرضت عليه فيما عرضت هذا الانسحاب. وهنا وضع قورش كرويسوس في عهدة ابنه قنميز الذي جعل خليفته وأوصاه بان يكرم مقاومته من بعده إن فشلت الحملة ثم أرسلهم إلى فارس بينما ذهب ليعبر وجيشه النهر.
توغل قورش في ارض الماساجيتاي حسبما أشار إليه كرويسوس ثم أقام سرية صغيرة هناك وقفل بعدئذ مع جيشه. فلما اخذ قورش مواقعه في عمق أراضيهم وجد هؤلاء فرصتهم فأطبقوا على القوات المتبقية بحامية تعادل ثلث مجموعة جيشهم فقضوا عليهم ولم يبقوا على احد منهم بالرغم من استبسال الحامية الفارسية. ثم التفوا إلى الوليمة العامرة ونعموا بها وظلوا على الأكل والشرب حتى نال منهم الخدر والنعاس فاستسلموا لنوم عميق, وكانت هذه الفرصة التي تحينها الفرس فأطبقوا عليهم وقتلوا منهم من قتلوا واخذوا ما بقي منهم أسرى, وكان من بينهم ابن الملكة وقائد جيشها سبارجابسيس.
لما بلغ الملكة تومايريس نبأ الهزيمة التي لحقت بجيشها واسر ابنها بعثت برسالة إلى قورش قالت فيها (( انك وان تكن متعطشا للدماء لم تجد ما يجعلك فخورا بما أتيت به اليوم وليس فيه ما ينم عن شجاعة المقاتلين. لقد كان سلاحك من عصير العنب الذي تعب منه فتفقد الرشد عندما ينهال الخمر في أحشائك, ومع تصاعد أبخرته تخرج البذاءات ذلك هو السم الذي احتلت به لتوقع ابني في براثنك. فأصغي إلي الآن, وأنا لك من الناصحين : اعد إلي ابني واخرج أنت وجيشك من ارضي ولكم جميعا الأمان, وحسبك نصرا ما كان لك فان أعرضت عن نصيحتي فلك مني ان تجد من الدماء مالا تقوى على شربه, وان عرفنا عنك من تعطش للدماء))
لكن قورش لم يأبه لهذا التهديد, أما ابن الملكة فانه لما عاد إلى رشده وأدرك حقيقة حاله أخد يرجوا قورش أن يفك عنه أغلاله وقد أجابه على طلبه وما أن نزع الأغلال عنه فأسرع عند ذلك وانتحر. أما الملكة فقد سارعت إلى قتال قورش بعدما أهمل إنذارها, وزجت في قتاله بكل ما لديها من القوة وكانت بينهما معركة لم يعرفوا مثلها في ذلك الزمان من ضراوة وشراسة, فكلا الجيشين تقدما حتى أصبح كل على مرمى سهام الآخر, واستمروا في التراشق حتى نفذت منهم السهام ثم التحم المقاتلون بالرماح والخناجر وضلوا على قتالهم فترة ليست بالقصيرة وكل ثابت لا يتزحزح عن موقعه, ولكن الماساجيتاي تمكنوا في النهاية من جيش الفرس وانزلوا فيه مذبحة كان فيه فنائه. وكان قورش ذاته من القتلى وكان حكم تسعا وعشرين سنة في بلاد فارس.
بعد الانتصار أمرت الملكة تومايريس بالبحث بين القتلى عن جثة قورش فلما أتوا بها دفعت برأسه في قربة ملأتها بالدم وصاحت بأعلى صوتها وهي تقوم بهذا العمل: ((لان انتصرت عليك وسلمت فانك ألحقت بي الدمار خسة وغدرا حين انتزعت مني ولدي فانظر الآن حين أنفذ وعيدي فهيا وأجرع من الدم ما يروى ظمأك))
لقد برهنت الملكة تومايريس عن وطنيتها العالية وحبها المقدس لبلادها عندما رفضت الزواج من ملك ذاع صيته وكثر انتصاراته كما أنها دافعت عن هذا الوطن بإيمان وعقيدة لا مثيل لهما, فأرادت أن تبعد العدو عن أرضها بالسياسة والسلم فلم يجدي لان العدو وجد بنفسه النصر المؤكد لما يمتلكه من الغرور ومن نشوة انتصاراته على الآخرين ولاسيما انه في معركة مع امرأة. لكن تومايريس لم تخش سمعته الحربية ولا قوته وجبروته وكثرة أعداد جيشه بل كانت كالطود الشامخ أمام هذا العدو الذي يعتبر نفسه لا يقهر. وكان النصر حليفها لأنها أدركت منذ البداية بان الوطن فوق الجميع والدفاع عن حياضه أعلى مراتب التضحية ولا سيماً إذا اختلط هذا الحب الوطني المقدس بحب الأمومة لفقد ولدها وشهوة الثأر له من عدو لا يرحم. وهذا شان كل تركماني وتركمانية في حب الوطن أينما وجدوا.
إن الملكة تومايريس إحدى النماذج من النساء التركمانيات الكثيرات العدد مثلها في التاريخ وجدن في مختلف الأزمنة والأمكنة, وفي مختلف المواقع الاجتماعية, سطر لهن التاريخ بمداد من الذهب, وان المرأة التركمانية ستبقى في حاضرها كما كانت في ماضيها أداة بناءة ضمن أسرتها و مجتمعها جنبا إلى جنب مع الرجل مستوحية هذا الحاضر من الماضي المشرف لبناء مستقبل زاهر لأسرتها ووطنها أينما كانت.