الفصل الثانيا
لدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر1- دولة في مرحلة الانهيار .
2- السلطان عبد الحميد يتصدى للدول الاستعمارية .
3- انحطاط الدولة العثمانية .
4- محمد علي والي مصر يهدد الدولة العثمانية .
(( لقد كان مستشار المانيا الأمير بسمارك يرى ان في تجزئة تركيا خدمة لمصالحه الخاصة )) .
جون هسلب
مؤلف كتاب السلطان الأحمر
قصة حياة السلطان عبد الحميد
الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر
دولة في مرحة الانهيار :
لمعرفة الظروف التي طرح فيها المشروع الصهيوني الاستعماري لا بد من معرفة الاوضاع السياسية والاقتصادية التي كانت تمر بها الدولة العثمانية ـ تلك الدولة التي كانت فلسطين احدى الاقاليم المهمة التابعة لها ، ولا دبد لكل منصف ان يعترف ان العثمانيين قد حافظوا على عروبة فلسطين كبلد اسلامي يتبع الدولة الاسلامية العثمانية لمدة اربعمائة عام منذ احتلالها عام 1517 م حتى سقوطها بيد الانجليز عام 1918م.
وبقيت الدولة العثمانية دولة قوية مهابة الجانب تتحدى الدولة الاستعمارية الطامعة ، حتى قدر لها في نهاية القرن التاسع عشر ان ترزأ بسلاطين مستهترين ضعاف ، همهم الملذات ، والترف والمجون ، فانصرفوا عن متابعة شئون الحكم ، واصبحوا اسرى قصورهم ووقعوا تحت تأثير محظياتهم من الحريم ، والمستشارين الفاسدين المرتشين ، مما ادى الى ضعف الدولة وطمع الطامعين من الدول الاستعمارية بها ، تلك الدول التي استغلت تلك الاوضاع الفاسدة ، واخذت تتدخل في شؤون الدولة الداخلية عن طريق قناصلها ، واستطاعت تلك الدول الحصول على امتيازات للتدخل في الاوضاع الداخلية للدولة العثمانية ، ففرضت العديد من الدول الاستعمارية وصايتها على الطوائف ، والاقليات ، واعتبرت نفسها حامية حمى تلك الاقليات ، واخذت تحيك المؤامرات لنخر جسم الدولة التي اوشكت على السقوط في نهاية القرن التاسع عشر ، والتي اصبحت تسمى بـ "الرجل المريض " الذي لم يكن يبقيه في آخر الامر على قيد الحياة الا صراع الدول الاستعمارية على اقتسام تركته ، وحرص كل منها على الاستيلاء على النصيب الاكبر من الاقاليم التي كانت تطمع في الاستيلاء عليها .
ولا نريد استعراض احوال الدولة العثمانية بالتفصيل ، فليس ذلك موضوع الكتاب ، ولكن القاء صورة سريعة على حياة عدد من السلاطين المتأخرين يوضح لنا الواقع المفجع الذي كانت تعيش فيه الدولة العثمانية ، والتي لم ينفعها وصول السلطان عبد الحميد الثاني الى الحكم ، لان الاوان كان قد فات ، وكان المرض قد استشرى لدرجة ان الجهود الجبارة التي بذلها السلطان لانقاذ الولة قد باءت بالفشل .
ففي عهد السلطان عبد العزيز (1861 ـ 1876م) بدأت بوادر الانحلال تدب في جسد الدولة وبالرغم من الاصلاحات العظيمة التي قام بها فؤاد باشا وعلي باشا الصدرين الاعظمين ، والوزيرين المشهورين في التاريخ العثماني ، ولكن وفاة هذين الرجلين في العام 1871م ـ وقد انا رجلي دولة فعلاً ـ احدثت تغييراً كاملاً في سياسة تركيا الخارجية والداخلية ، وبموتهما تحرر عبد العزيز من الوصاية عليه واندفع وراء ملذاته بهوس جنوني .. وما عتم الامر ان اخذ الهمس يدور بين افراد حاشيته عما كان السفراء الاجانب وحدهم قد اعلنوه في رسائلهم الخاصة ، وهو "ان السلطان قد بدأ يفقد عقله ... " فكي يبعد الضجر عنه اخذ يلجأ الى نوع من اللهو الغريب الشاذ .. فمن ادوات المائدة المكونة من الذهب الخالص والمرصعة بالحجارة الكريمة والتي قام بصنعها احد امهر الصاغة الباريسيين (1) .
وتكاثرت في أقاليم السلطان عبد العزيز الاوروبية الجمعيات السرية التي كان يديرها القناصل الروس وتمولها السفارة الروسية في الفسطنطينية (2) . وفي عام 1857 م ونتيجة للتبذير والاسراف الجنونيين اللذين درج عليهما السلطان ، اصبحت خزينة الدولة في حالة يرثى لها ، مما اضطر السلطان الى ان يصارخ دائنيه الاوروبيين بان وضعه لا يسمح له بدفع ما يترتب عليه تجاههم وقد اثار هذا التصريح موجة من الاحتجاج في كل البلدان (3) .
وحدث صباح يوم في ( بالاتا ) ان فوجئ عبد الحميد بسماعه احد الصيارفة اليونان يوري بكثير من اللامبالاة كيف ان عبد العزيز باع حقوقه بالسيادة على مصر مقابل بعض المبالغ التي كفلها له صيارفة الخديوي الارمن (4).
واصبح الوضع الاقتصادي ، كالوضع السياسي الداخلي مصدر تذمر للمواطنين ، الذين بدأوا يطالبون بالاصلاح والحريات ، بل وأصبحوا يطالبون بدستور جديد للدولة على شاكلة الدساتير الاوروبية ولم تكن مثل هذه المطالب معروفة فيما بين الرعايا العثمانيين الاتراك ، بل الاصح انها لم تكن تظهر كمطالب علنية .
وقد تب سفير انجلترا السيد هنري ايليوت الى حكومته عن هذا الامر في ربيع عام 1876 م قائلاً :
"ابتداء من الباشوات حتى الحمالين في الشوارع وربابنة الزوارق في البوسفور لم يعد أ؛د يخشى من ابداء رأيه ، فكلمة ـ دستور ـ على كل شفة ولسان ، واذا رفض السلطان ان يحقق شيئاً لشعبه ، فان محاولة عزله تبدو أمراً محتوماً " (5) .
ولم تكن الاحوال في الاقاليم بأحسن مما عليه في تركيا نفسها فبدأت الثورة في البوسنا ، وانفجرت المشاكل في صربيا والجبل الاسود ، وقامت مذابح بين المسلمين والارمن وكل هذا كان يتيح للدول الاجنبية التدخل في شئون الدولة تحت مبررات مختلفة .
ففي صربيا ، والجبل الاسود ، هرعت جموع المتطوعين لمساندة ثائري "بوسنا " وفي سالونيك ادى انفجار التعصب الاسلامي الى ذبح قنصلي فرنسا والمانيا ، فبرزت في ربيع تلك السنة "قضية الشرق " اكثر من أي يوم مضى ، واصبحت موضع اهتمام كل المحافل الاوروبية ـ فانبرى اباطرة النمسا والمانيا وروسيا الى الاحتجاج العلني على السلطان لانه لم ينفذ الاصلاحات التي وعد بها منذ امد طويل وحذوره بانه ان لم يقم بتعهداته فسيجدون انفسهم مضطرين للتدخل من اجل حماية رعاياهم المسيحيين (6) .
ولم يكن الاصلاح الذي يطلبون سوى اصدار التشريعات التي تتيح لهم مزيداً من التدخل في شؤون الدولة الداخلية .
وخوفاً من اندلاع نار الثورة استدعى السلطان مدت باشا اليه ، لكن هذا الاخير كان قد غادر العاصمة منذ ثمانية ايام اعتقاداً منه بان أي عمل اصلاحي لن يتم طالما ان عبد العزيز متربع على العرش ، ولما وجد السلطان نفسه غير جدير بمجابهة الازمة ، انزوى في حرمه ليقضي الليالي والقسم الاكبر من النهار بين ذراعي شركسية في السابعة عشر من عمرها ، فقد سلبت هذه الشركسية لبه وسيطرت على عقله الضعيف لدرجة جعلته يصرف عليها كما قيل ، ما يقارب الميون ليرة تركية لارضاء نزواتها ، ولما لم يعد هناك حل سوى اقالته ، قصد مدحت باشا ولي العهد الذي كان يعيش عملياً كأسير في "كوناكة " خارج العاصمة (7) .
وكان مدت باشا مشكوكاً في حسن نيته ، وفي انه كان يعمل للمصلحة العامة وليس لمصلحته الشخصية بل كان متهماً بانه يعمل بالتعاون مع الدول الاجنبية الاستعمارية ، وبالرغم من المبررات القوية التي تستدعي ابعاد السلطان عبد العزيز ، والذي اتهم مدحت باشا بقتله بعد ذلك ، الا ان ولي العهد الامير مراد ، لم يكن احسن حالاً من عبد العزيز الذي كان مدمنً للشمبانيا ، والخمور مما جعله في حالة نفسية وعقلية لا تؤهله للقيام باعباء الحكم .
وان الامير مراد الذي قدمه مدحت باشا وحزبه الى العالم تحت اسم "مراد المصلح والمثال لكل الفضائل " لم يكن فيه شيء من الشباب المملوء حمية والذي تبنى بحماس وتفهم اثناء سفره الى اوروبا كل شعارات الديمقراطية ، فالحياة التي عاشها في خولته قد افسدت صحته ، لان ما كان معتبراً عنده بمثابة ميل في النفس ، قد اصبح آفة متأصلة ، فادمانه المفرط على شرب الشمبانيا ممزوجة باكلونياك قد جعله في اسوأ حال صحياً وأدبياً (
.
وسواء مات عبد العزيز انتحاراً ام قتلاً ، فان موته جعل خلفه يشعر بالمصيبة تحدق به .. اذ اخذ هذا التعيس المضطرب العقل ، ينظر الى نفسه كأنه هو قاتل عمه ... واصبحت حالته مخيفة مرعبة ، مما حمل مدحت باشا بناءً لالحاح السلطانة الوالدة الجديدة على ان يستعدي له من فيينا اخصائياً معروفاً بالامراض العصبية (9) .
وكان عبد الحميد منذ عدة اشهر قد زاد اهتمامه بصحة اخيه مراد ، ذلك لأنه علم ان الاطباء حكموا بانه مصاب بمرض عصبي وراثي قد تفاقم بسبب افراطه في تناول المنبهات كما علم بان كل صدمة وكل تأثير مفاجئ قد يعرضان لشؤوم عقله المختل التوازن، وظهور السلطان الجديد في ذلك الصبحا اكد هذا لحدس اكثر فاكثر ، لانه اثار الشفقة عليه عندما دخل الى قاعة الاجتماعات في وزارة الحربية ، ليس مصحوباً بمدحت باشا، بل مستنداً اليه .. فالامير الذي اعلن عند تسلمه العرش عن بزوغ فجر جديد ، تقدم ليستقبل وزراءه بخطى مرتجة .. ومن شدة ارتعاشه بالكاد استطاع الامساك بسيفه وعندما ادى اليمين التقليدية ، كان صوته تقريباً غير مفهوم (10).
وقد حدثت احداث داخلية جعلت السلطان الجديد يفقد ما تبقى من عقله ، فعندما توفيت محظية عبد العزيز الشركسية بعد انتحاره ( أو قتله ) مشى وراء نعشها حتى مقبرة سكيتاري ، مع حشد ضخم من الناس ، ولم يكن موت هذه المحظية سوى بداية مآس متلاحقة ، فشقيها الضابط الشركسي الشاب الذي اشتهر بدقة تصويبه للمسدس ،تأثر لما لحقه من اهانة وصمم على الانتقام من وزير الحربية ، فبعد ان اصبح كالمجنون لكثرة ما استنشق من حشيشة الكيف ، تسلح بأربعة مسدسات ، اخفى اثنين منهما في جزمته واثنين تحت زناره وانقض على اجتماع لمجلس الوزراء ، وبطلتقين اثنتين قتل وزير الحربية ووزير الخارجية ولما حاول بقية الحضور انتزاع اسلحته ، صرع الواحد تلو الآخر ، ولم يستطع السيطرة على اعصابه الا بعد ان قتل سبعة اشخاص وجرح ثمانية (11) .
وعندما شنق امام جمع غفير ، بقي حتى آخر لحظة مالكاً زمام نفسه ، مؤكداً بانه لا شريك له ، وانه اراد فقط الانتقام من وزير الحربية ، لن هذا العمل المنفرد الذي قام به شاب متعصب ، كان بمثابة رصاصة الرحمة للعهد الجديد ، لانه على اثره فقد السلطان مراد كامل قواه العقلية ، فعندما وصل الدكتور ليدرسروف من فيينا ، كان طبيب مراد الخاص ومدير مصح المجانين في القسطنطينية ، قد اعلنا بان مرض السلطان غير قابل للشفاء ، ومع ذلك فالدكتور ليدرسروف لم يشاطرهما الرأي ، اذ حكم بانه مصاب بداء الغول المزمن الناتج اصلاً عن تناول الكحول ، وقد ازداد خطورة بسبب سلسلة من الصدمات المتلاحقة ، وان شفاء هذا المرض غير ميؤوس منه ، شرط ان يتتوفر للسلطان الراحة التامة لمدة ثلاثة اشهر ، وان يبعدوا عنه كل المؤثرات ، فزاد هذا التشخيص من حيرة الوزراء ، لانه عملياً سوف يترك الامبراطورية العثمانية بدون سلطان ، وذلك في ادق مراحلها التاريخية(12).
وفي هذه الاثناء التي تواجه فيها الدولة المشاكل الداخلية الخطيرة كانت ولايتا صربيا والجبل الاسود قد انضمتا الى ثوار "بوسنا " لمهاجمة تركيا ، وفي بلغاريا احدثت دسائس العملاء الروس عصياناً شبيهاً بعصيان بوسنا ، فهاجم في شهر ايار المسلحون المسيحيون جيرانهم المحمديين ( المسلمين ) الودعاء ، فأغتصبوا النساء وحرقوا القرى وذبحوا اكثر من مائة جندي وشرطي تركي ، قبل ان يتمكن السكان المسلمون ـ الذين عززوا بعصابات غير نظامية جندت على عجل ـ من الرد على المعتدين ، ولكن كان ردهم من العنف بحيث ان العالم ارتعد من هول مذباح بلغاريا (13) .
وهكذا نرى ان الدولة كانت تنهكها المشاكل الداخلية والثورات في الاقاليم والفساد يدب في اوصالها في الوقت الذي كانت تتطلع الى افتراسها الدول الاستعمارية التي كانت يحكمها شخصيات عرفت بتطلعاتها الاستعمارية واحقادها على الاسلام ، فقد كان على رأس الحكومة الانجليزية يومذاك السير غلادستون زعيم حزب الاحرار المعروف بمناصرته للامم الصغيرة وبعدائه المستحكم للاسلام (14) .
وفي هذه الاثناء ، التي كانت تتردى فيها الدولة العثمانية علىالصعيد السياسي والاقتصادي ، والعسكير داخلياً وخارجياً تولى السلطان عبد الحميد الثاني مسؤولياته .
وفي الثلاثين من تشرين الاول عام 1876م تليت في الديوان الملكي الفتوى المعنلة انه وفقاً للنصوص الشرعية يعتبر السلطان المصاب باختلال عقلي غير جدير بان يحكم ، وبناء على ذلك خلع مراد رسمياً لمصلحة شقيقه عبد الحميد الذي خلفه على العرش واصبح السلطان العثماني الرابع والثلاثين (15) .