انحطاط الدولة العثمانية :
شأن كل الدول الكبيرة المترامية الاطراف ، والامبراطوريات الواسعة ، بدأت مظاهر الضعف والوهن تسري في جسم الدولة العثمانية التي تتألف من عدد كبير من القوميات ، والطاوئف ، في بلاد واسعة في ارجاء آسيا واوروبا وافريقيا .
وعندما قويت الدول الاوروبية ، واخذت تتطلع الى التوسع خارج حدودها ، كانت الدولة العثمانية اولى اهدافها ومجالاً للتوسع الاستعماري ، ولرغبة وطمع تلك الدول الاوروبية في السيطرة على أقاليم غنية ،ومواقع استراتيجية تؤمن لتلك الدول مصالح سياسية وعسكرية واقتصادية واستراتيجية ، من اهم تلك الدول التي كانت تتنافس على اقتسام الامبراطورية العثمانية ( بريطانيا ، وفرنسا والمانيا وروسيا وايطاليا ) وغيرها من الدول .
وقد ظهرت في القرن الثامن عشر دعوات متعددة لاقتسام مقاطعات الدولة العثمانية بين الدول الاوروبية فصدر في باريس كتيبان ينطويان على اجترار لبعض الاراء التي ظهرت في القرن الثامن عشر حول انحطاط الامبراطورية العثمانية وضرورة توزيع مقاطعاتها على الامم الاوروبية التجارية ، الكتيب الالو عبارة عن منشور مقفل بتوقيع ج. ج صدر سنة 1821م بعنوان : "آراء حول أزمة الامبراطورية العثمانية الراهنة ". ويدعو المؤلف من جديد في هذا الكتاب الى طرد الاتراك من اوروبا وتوزيع بعض المواقع الاستراتيجية في البحر الابيض المتوسط على الدول الاستعمارية ، وتبعاً لذلك ينبغي على فرنسا ان تطالب بجزيرتي قبرص وكريت ، اما الكتيب الثاني فمنسوب الى مؤلف يدعى ب. أ. دوفو (1795 ـ 1877م) . ان ما يقترحه هذا الكتيب الذي يحمل عنون "حول تقسيم تركيا الاوروبية بين روسيا وانجلترا واليونان بواسطة فرنسا" كان بشكل خاص خلق "امبراطورية يونانية " على انقاض السيطرة العثمانية (46) .
وفي ملع القرن التاسع عشر بدأت تطلعات الدول الاوروبية للتدخل في الامبراطورية العثمانية تحت شعارات ، ومبررات مختلفة ، منها ما هو سياسي ، ومنها ما هو ديني ومنها ما هو انساني تحت شعار الاصلاح الداخلي ، ونشر الحرية والعدالة والتقدم والمحافة على الامن في الشرق ، وقد كان كل ذلك يتم باسم المسألة الشرقية او اقتسام تركة الرجل المريض .
وكانت الدول الاوروبية تقف بالاجماع ضد الدولة العثمانية من حيث المبدأ الا ان تضارب مصالحها والطمع في الحصول على اكبر حصة من ارث الرجل المريض ، كانت تضطرها للمحافظة على الدولة العثمانية حتى يتم الاتفاق عليى اقتسامها وحتى يمنع بعضها البعض الآخر من الاستئثار بحصة اكبر مما ينبغي .
وبدأت الدول الاوروبية بالتنسيق فيما بينها تجاه المشاكل الناشئة في الدولة العثمانية فكان التقارب الانجريزي ـ الروسي الذي انضمت اليه فرنسا بعد فترة قصيرة هو الذي يوجه الدبلوماسية الاوروبية نحو حل المسألة اليونانية ، بعد مفاوضات دقيقة تم التوقيع على بروتوول سان بطرسبرغ في 12 آذار 1825 م ،وقد قبل الموقعون على هذا البروتوول مبدأ التدخل الاوروبي في الامبراطورية العثمانية من اجل وضع حد " للحوادث " التي كانت تثير الاضطراب في المشرق (47) .
وفي عام 1828 م وقعت الدول الاوروبية ( ما عاد النمسا ) معاهدة لندن التي كان الهدف منها حل الازمة التركية اليونانية ولو بالقوة اذا ما دعت الحاجة (48) وحذرت الدول الاوروبية القوات العثمانية لوقف قمع انتفاضة الثورة ، التي قام والي مصر محمد علي بدور فعال فيها ، وبلكن السلطان رفض طلب الدول الاوروبية التي كان اسطولها المحتشد قرب (نافران ) يحاصر السفن التركية والمصرية في هذا المرفأ "وقرر الحلفاء لكي يضعوا حداً لرفض السلطان ايقاف العمليات في اليونان ، توجيه ضربة حاسمة ، فقد امر الاميرال الفرنسي (دو رينيي) ـ بحجة ان طلقاً نارياً وجه الى مركب أوروبي ـ بتدمير الاسطول المعادي دون أي انذار مسبق ، وفي خلال بضع ساعات كانت الهزيمة قد تمت ودمر الاسطول العثماني " (49) .
ان التدمير المتعمد والمنتظم للاسطول العثماني في نافاران كان يشير الى عزم روسيا وحلفائها الانجلو ـ فرنسي على تحطيم مقاومة سلطان ، ولكن هذا الانصار جعل الباب العالي يتصلب في موقفه ، وفي نفس الوقت اذكى في اوروبا الآمال القديمة في تقسيم نهائي للامبراطورية العثمانية ، وسارت دول اخرى على خطى محمد علي فنصحت ، ـ ولكن عبثاً ـ السلطان بايقاف الحرب ، كما ان بروسيا ، بالاشتراك مع النمسا التي ظلت على الحياد ، استعادت دورها كوسيط لدى القسطنطينية (50) .
وعلى اثر هزيمة نافاران ارتفعت الاصوات المنادية بتقسيم الدولة العثمانية ، (فارتجلت فرنسا مشروعاً لتقسيم تركيا عرف منذ ذلك الحين باسم راسم خطوطه الرئيسية الوزير بولينياك ) .
وكان عدد من الصحفيين قد اطلقوا مراراً فكرة التقسيم هذه ، وكان احد الصحفيين المدعو "ج. دو برادت " قد نشر في باريس كتاباً بعنوان " في النظام الاوروبي الدائم ازاء روسيا وقضايا الشرق " .
وفي السنة التالية صدر في باريس ايضاً كتاب بعنوان " تقسيم تركيا " يرد فيه مؤلفه "ج. ب ماروشيتي " على الكتاب الاول . فرغم انه كان يقترح فيه اعلان استقلال اليونان ، فقد رفض اعادة احياء الامبراطورية البيزنطية القديمة ، اما بقية المناطق العثمانية في اوروبا بالاضافة الى القسطنطينية فيمكن ان تقتسم بين الدول الاوروبية المختلفة . وسيكون هذا التقسيم فرصة لاعادة النظر في خارطة اوروبيا السياسية التي رسمها مؤتمر فيينا سنة 1815 م بصورة جذرية .
وفي نفس سنة 1828 ايضاً ، اصدر كاتب مجهول بتوقيع ج. ب. م في باريس دراسة حول "تقسيم تريكا " ، وكان هذا الكاتب على اقتناع بالانهيار الوشيط لهذه الامبراطورية .
كانت كل هذه المشاريع التي تفتقت عن بعض المخيلات الخصبة ، في الحققة ذات فائدة كبيرة في تغذية تيار اعلامي داخل الرأي العام محبذ لوجهات نظر بعض الحكومات وبالفعل فان مثل هذه المخططات التقسيمية كانت تدرس في عواصم اوروبية (كفيينا وباريس ) وكانت كل حكومة تضيف اليها بعض النقاط التي تخدم مصالحها الذاتية . كان مترنيخ يقترح على حكومات بطرسبورغ وبرلين مخططاً سرياً معادياً لفرنسا في حين كان بولينياك يحمل حكومته على تبني مشروع رسمي لتقسيم تركيا مرفقاص بمراجعة اساسية لخريطة اوروبا السياسية " تحسباً للمستقبل في حال سقوط القسطنطينية " . وقد قدم هذا المشروع ، الذي وضعه بوالوكونت في شهر آب 1829 م ، الى القيصر في شهر ايلول . كان هذا المشروع يدعو الى انشاء دولة مسيحية في القسطنطينية لا تكون خاضعة باي شكل من الاشكال للوصاية الروسية خاصة وانها تهدف بالضبط الى منع الروس من التربع على انقاض العثمانيين ، وكان القيصر سيحصل على مقاطعات فلاشيا ومولدافيا في اوروبا وارمينيا وتريبيزون في آسيا كتعويض عن هذا ، اما روسيا التي كانت "عقدة المشروع " حسب تعبير بولينياك فكانت ستحصل على الساكس وهولندا ، في حين ان انجلترا كانت ستستولي على المستعمرات الهولندية ، اما ملك هولندا فكان سيجلس على عرش القسطنطينية وسيحم جزءاً اوروبياً وآسيوياً من الامبراطورية العثمانية المجزأة ، وبالنسبة الى النمسا فكانت ستحصل على مقاطعات البوسنة وكرواتسيا وصربيا وهرزريغوفين التي طالما طمعت بها ، اما فرنسا فكانت ستسترجع المقاطعات البلجيكية واللوكسمبورغية وحتى بعض الاجزاء من هولندا ، واخيراً سيمنح ملك ساكس السابق حكم دولة اصطناعية تضم الاراضي الواقعة على ضفة الرين اليسرى الا ان روسيا رفضت هذا المشروع رفضاً مطلقاً وذلك منذ ان بدأت خطوطه الاولى في الظهور (51) .